Cedar Centre For Legal Studies

دراسة حالة

معاذ مرعب: من "المسلخ البشري" إلى المطبخ… حكاية عودة للحياة من باب الأمل

07/01/2025

في أحد أيام عام 2024، توقّف تاكسي على أطراف مدينة طرابلس شمال لبنان. خرج منه رجل خمسيني منهك الملامح، عيناه تائهتان بين ماضٍ لم يغادره بعد، وحاضر لم يعتد عليه بعد. كان هذا معاذ مرعب، الذي يعود إلى مدينته بعد غياب دام 18 عامًا في السجون السورية، قضاها بين أقبية التعذيب وظلمة الزنازين، دون محاكمة، ودون تهمة موثقة، سوى عبوره من العراق إلى لبنان في لحظة سياسية ملتهبة.

“كان كل همي وانا طالع من السجن بعد ما النظام سقط.. اركض وأقبل الزفت.”

من الصحافة إلى السجن

كان معاذ في أوائل الثلاثينات من عمره عندما غادر طرابلس عام 2003 متوجهًا إلى العراق، مدفوعًا بهول الغزو الأميركي وبدافع من الحماسة العربية والانتماء القومي. لم يكن منتميًا لأي حزب أو تنظيم، بل كان يعمل في مجال الصحافة الحرة، ويوثّق ما يجري من اجتياح لبلد عربي. وبعد ثلاث سنوات من العمل، قرر العودة إلى لبنان عبر سوريا. لكن هذه العودة تحوّلت إلى كابوس طويل عندما أوقفته أجهزة المخابرات السورية في مدينة دوما، ووجهت له تهمًا فضفاضة بانتمائه إلى “تنظيم ديني إرهابي”، رغم غياب أي دليل.

رحلة العذاب: من فرع فلسطين إلى صيدنايا

نُقل معاذ أولًا إلى فرع أمن الدولة في كفرسوسة، ثم إلى فرع فلسطين سيئ الصيت، حيث بدأ يتعرّف على وجهٍ جديد للحياة – أو بالأحرى، على غيابها. في فرع فلسطين، خاض أولى جولات التعذيب: تعليق من اليدين، كبل كهربائي رباعي، تجريد من الملابس، شتائم طائفية، وإهانات لا يتسع لها الوصف.

“أوقات بالسجن كان يعزبونا للتسلية فقط”

ثم جاءت المرحلة الأقسى: نُقل إلى سجن صيدنايا العسكري، المعروف بـ”المسلخ البشري”، حيث بقي لسنوات، ثم إلى سجن عدرا.

“حجم التعذيب الذي تتعرض له هناك في السجون كان على عدة مراحل على عدة فترات لأهداف كثيرة. التعذيب بيختلف حسب نوع السجن. تعرضت لشتى أنواع التعذيب بكل سجن عشت فيه من صيدنايا الى سجن عدار”

“ما زلت اعاني من التشنجات أنا ونائم تشنجات في الفك والارجل بسبب الخوف الذي كنت اعيشه في سجون النظام. في صيدنايا، كان الموت جزءًا من اليوميات، وكانت طرق التعذيب تتجاوز الخيال.

العودة إلى طرابلس… والغربة الجديدة

استقبلته عائلته بالزغاريد والدموع، لكنه شعر بالغربة في مدينته. فهو الذي خرج شابًا في الـ33 من عمره، عاد اليوم في الـ51. ترك أولاده أطفالًا، وعاد ليجدهم شبابًا. ابنته مريم تزوّجت وأصبحت أمًا، وابنه محمد أنهى دراسته الجامعية. والدته، التي تمسّكت بالأمل طوال هذه السنوات، لم تصدق أن لحظة اللقاء قد جاءت أخيرًا.

“بعد 18 سنة الحمدالله عدت الى بلدي وعائلتي ومحيطي، التقيت بأولادي وتفاجات بهم كم كبروا ابني اصبح شابا يقصد الجامعة وابنتي تزوجت وأصبحت جد ولدي حفيد. الشعور بالالم ما زال وانا بحاجة الى وقت طويل كي انساه او يخف والحمدالله بدأ هذا الشعور بالتلاشي لان أصبحت مدركا لمحيطي وبإنني بأمان.”

دور مركز سيدار لاعادة تاهيل ضحايا التعذيب: نقطة تحوّل

في خضم هذا الضياع، تواصل معه مركز سيدار لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب. لم يكن يتوقع أن هناك من يمكنه أن يفهم ما مرّ به.

“مركز سيدار لاعادة تاهيل ضحايا التعذيب تتدخل مباشرة وتواصل معي للاستفادة من الخدمات التي يقدمها بهدف مساعدتي على الانخراط في المجتمع والتأقلم من جديد في حياتي العادية ومع عائلتي.”

قدم المركز جميع الخدمات المُتاحة بطريقة سريعة، شفافة وسرية من دعم نفسي -اجتماعي، استشارة طبية، ادوية وتحاليل هذا عدا متابعة ملفي القانوني حتى الان. هذا المركز لامثالنا كان الدعم الحقيقي نحن كضحايا تعذيب تعرضنا للتعذيب لسنوات طويلة. هذا المركز خطوة ممتازة على صعيد إعادة تأهيل ضحايا التعذيب

كان الداعم الحقيقي لي معنويا، اجتماعيا ونفسيا وقانونيا. شاركني ألمي وحكايتي وخفف عني المعاناة، كل فريق العمل جعلني أشعر بإنهم يهتمون لامري ويشعرون بمعاناتي.لا بد من المحافظة على هذا المركز ودعمه لمساعدة ضحايا التعذيب على تخطي الوجع والوصول الى مرحلة التعافي.”

من الجحيم إلى المطبخ: مشروع حياة

بفعل هذا الدعم، قرر معاذ أن يستعيد زمام حياته. بدأ بمشروع صغير من منزله، مطبخ لتحضير الأطعمة المنزلية وتوصيلها إلى الزبائن. يعدّ الوجبات ويفرز بعضها، ويوصلها بنفسه إلى الزبائن، مستفيدًا من مهاراته وإصراره على الاستمرار.

“بفعل الخدمات التي حصلت عليها ساعدتني كثيرا على الاندماج في المجتمع من جديد، ان اؤسس لمشروع جديد خاص فيي وهذا ما حصل. أسست لمشروع صغير وهو مطبخ من المنزل من خلاله علمت على طبخ الطعام وارساله دليفري الى الزبائن بالإضافة الى المأكولات الجاهزة المفرزة.

كان مشروع نقطة انطلاق جديدة في حياتي بعد الدعم الذي حصلت عليه من مركز سيدرا لاعادة تاهيل ضحايا التعذيب. المشروع ما زال قائما حتى لو كان بوتيرة خجولة.”

رسالة أمل

معاذ اليوم لا يدّعي أنه تعافى بالكامل. الألم ما زال يسكن ذاكرته وجسده، لكنه بدأ يستعيد الأمل، ويؤمن بأن المرحلة التي عاشها كانت مؤقتة، وأن القادم يحمل فرصة جديدة.

“الانسان لا يستطيع العيش من دون امل، وهذا الأمل مرتبط بمحفزات، أي يجب على كل واحد فينا أن يكون لديه ثقة بالله من ثم بنفسه، وعليه أن يدرك بأن المرحلة التي يعيشها مؤقتة.”

توصيات للسلطات اللبنانية

تُظهر قضية معاذ مرعب واحدة من أكثر صور المعاناة حدة لضحايا الإخفاء القسري والتعذيب في السجون السورية، وهي حالة لا يجب أن تُفصل عن مسؤولية الدولة اللبنانية في حماية مواطنيها داخل وخارج الأراضي اللبنانية.

وبناءً عليه، توصي الدراسة السلطات اللبنانية بما يلي:

1 . الاعتراف الرسمي بحالات الضحايا العائدين من الاعتقال في الخارج كضحايا تعذيب واختفاء قسري، وضمان حقهم في العدالة والتعويض وإعادة التأهيل.

  1. تفعيل الآليات الوطنية المنصوص عليها في القانون 65/2017 وتوسيع نطاقها لتشمل ضحايا لبنانيين تعرّضوا للتعذيب خارج البلاد.
  2. 3. دعم المراكز المتخصصة بإعادة التأهيل، وضمان تمويلها واستمراريتها بوصفها جزءًا من التزامات الدولة بموجب القانون الدولي.
  3. 4. إطلاق حملات توعية ودمج اجتماعي للناجين من السجون، والتخفيف من الوصمة الاجتماعية التي قد ترافقهم.
  4. تعزيز التعاون الدبلوماسي والحقوقي لمتابعة ملفات اللبنانيين المغيبين قسريًا في الخارج وضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات.