Cedar Centre For Legal Studies
المقدمة:
في ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي غير المسبوق الذي يشهده لبنان منذ عام 2019 وتداعيات الأزمة السورية عليه، وانهيار العملة المحلية وارتفاع نسب البطالة والتضخم، ازدادت ظاهرة الهجرة غير النظامية من السواحل اللبنانية، لا سيما من مناطق شمال لبنان المهمّشة كمدينة طرابلس والتي تُعد من الأكثر فقراً على البحر الأبيض المتوسط. ومن بين أكثر الحوادث المأساوية تلك التي وقعت في 23 نيسان 2022، حين غرق مركب يقلّ حوالي 80 مهاجرًا قبالة شاطئ القلمون في طرابلس، ما أسفر عن سقوط عدد من القتلى والمفقودين.
الإطار الزمني وتفاصيل الحادثة:
أفاد الناجون أن غرق المركب نتج عن تدخل طراد تابع للقوات البحرية اللبنانية، حيث تمت مطاردة المركب قبل وصوله إلى المياه الدولية، ما أدى إلى اصطدامه وغرقه. في اليوم التالي، أعلن الجيش اللبناني إنقاذ حوالي 45 شخصًا، وانتشال 7 جثث من بينهم طفل، فيما لا يزال 33 شخصًا في عداد المفقودين حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.
في 26 نيسان 2022، أعلن الجيش اللبناني أن مديرية المخابرات اللبنانية ستتابع التحقيقات بناءً على طلب مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، الأمر الذي أثار تحفظات قانونية كبرى نظرًا لعدم استقلالية هذه الجهة عن الجهات الأمنية المعنية بالحادث، ما يتعارض مع بروتوكول مينيسوتا المتعلق بالتحقيق في حالات الوفاة المشبوهة.
وفي 14 حزيران 2022، قدم 11 محامياً وفي مقدمتهم المحامية ديالا شحادة الناشطة الحقوقية والمحامي محمد صبلوح- مدير برنامج الدعم القانوني في مركز سيدار للدراسات القانوينة، دعوى جزائية أمام المحكمة العسكرية باسم أربعة من الناجين ضد 13 عنصراً من القوات البحرية، متهمين إياهم بالقتل العمد وغير العمد وفقًا للمواد 548، 189، و550 من قانون العقوبات اللبناني. كما طالبوا وزير العدل بتحويل الملف من المحكمة العسكرية إلى المجلس العدلي في 16 حزيران 2022.
الدعم الدولي والتحركات الأممية:
بالتزامن مع المطالبات المحلية المتصاعدة لكشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن حادثة غرق القارب قبالة سواحل طرابلس، برز تحرّك دولي لافت من قبل منظمات حقوقية وأممية. فقد قامت منظمة منّا لحقوق الإنسان، بالتنسيق مع مركز سيدار للدراسات القانونية، ونيابةً عن عدد من عائلات الضحايا، بتقديم رسالة إلى كل من المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء والمقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان للمهاجرين. وطالبت الرسالة بإجراء تحقيق مستقل، شفاف، وسريع في ملابسات الحادثة، مع التركيز على ما إذا كان قد تم استخدام القوة المفرطة من قبل الجيش اللبناني أو أي جهة أمنية أخرى خلال عملية المطاردة أو الاعتراض.
وبناءً على هذه الرسالة، وجّه في 21 أيلول 2022 عدد من خبراء الأمم المتحدة المعنيين بحقوق الإنسان رسالة رسمية إلى السلطات اللبنانية، أعربوا فيها عن قلقهم البالغ إزاء غياب تحقيق مستقل وفعال في القضية، إضافة إلى المخاوف المتعلقة بعدم احترام الحق في الحياة ومبدأ المحاسبة. كما شددوا على أهمية احترام حقوق الضحايا وذويهم في معرفة الحقيقة والعدالة، ودعوا السلطات إلى توفير تعويضات مناسبة للمتضررين وضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل. هذا التحرك الأممي أعطى بعداً دولياً للقضية وساهم في إبقائها على جدول أعمال مناقشات حقوق الإنسان في لبنان.
تطورات تقنية:
في آب 2022، وصلت الغواصة الأميركية “Pisces VI” إلى لبنان في إطار مهمة إنسانية تهدف إلى تحديد موقع حطام قارب الهجرة الغارق قبالة سواحل طرابلس. وقد تمكن الفريق التقني المصاحب للغواصة، عبر استخدام أجهزة استشعار متطورة وكاميرات عالية الدقة، من تحديد موقع الحطام بدقة على عمق يقارب 450 متراً (1470 قدماً) تحت سطح البحر. خلال عمليات المسح، تم رصد رفات ما لا يقل عن عشرة ضحايا داخل القارب وفي محيطه. ورغم هذه النتائج المهمة، لم تتمكن الغواصة من تنفيذ عملية انتشال الجثث بسبب التحديات التقنية المرتبطة بالعمق الكبير وغياب التجهيزات اللازمة للرفع الآمن للجثث من قاع البحر. وبعد استكمال المهمة الاستطلاعية، غادرت الغواصة المياه اللبنانية في 28 آب 2022، تاركة وراءها تساؤلات عديدة حول مصير باقي الضحايا، وضرورة استكمال عمليات البحث والانتشال باستخدام معدات متخصصة في هذا النوع من العمليات المعقدة.
أنشطة المناصرة ومتابعات مركز سيدار القانونية:
في إطار التزامه المستمر بقضايا الهجرة غير النظامية وحقوق الضحايا، نظّم مركز سيدار للدراسات القانونية ثلاث فعاليات متتالية في 6 شباط من أعوام 2023 و2024 و2025، وذلك تزامنًا مع اليوم العالمي لإحياء ذكرى الموتى والمفقودين في البحار وعلى الحدود. ركزت الفعاليات على قضية “مركب نيسان” إلى جانب قضايا مشابهة، وتخللها تلاوة بيانات مشتركة موقّعة من منظمات حقوقية لبنانية ودولية، دعت إلى محاسبة المسؤولين وضمان عدم تكرار المأساة.
في فعالية عام 2024، عرض فيديو توثيقي ثلاثي الأبعاد بعنوان “قارب الموت: مهاجرون يغرقون في بحرهم“، يحاكي حادثة غرق مركب نيسان 2022. يمتد الفيلم لنحو 30 دقيقة ويعرض مراحل التحقيق الاستقصائي الذي أجرته كل من “شبكة فبراير”، و”ميغافون”، ومركز سيدار، وينتهي بطرح سيناريو مرجّح لملابسات الغرق.
أما في فعالية 2025، فقد أُعلن عن استكمال المسار القانوني للملف وتقديم مشروع قانون للاعتراف بضحايا المركب كشهداء في الجيش اللبناني. وقد حظي المشروع بتوقيع أكثر من عشرة نواب وأُحيل إلى المجلس النيابي بانتظار إقراره، بينما يقوم أهالي الضحايا بزيارات لعدد من النواب لحثّهم على إقراره قبل نهاية العام الجاري.
كما عمل المركز بالتنسيق مع بعض نواب الشمال على زيارة رؤساء الحكومات الحالية والسابقة، للمطالبة بإصدار قرار يقضي بصرف مساعدة مالية من الهيئة العليا للإغاثة لعائلات المفقودين، بقيمة أربعة آلاف دولار أميركي لكل عائلة. وبتاريخ 27 تموز 2025، تقدّم المركز بطلب رسمي لزيادة قيمة المساعدة إلى عشرين ألف دولار أميركي للعائلة الواحدة، يتم تأمينها من جهات مانحة، بانتظار موافقة الحكومة عليه.
المتابعة القانونية التفصيلية:
رغم تقديم كافة الأدلة التي تُثبت تورّط أحد الضباط وعدد من عناصر الجيش اللبناني في هذه المأساة، قام مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بحفظ الشكوى دون اتخاذ أي إجراء، وجرى وضع الملف جانبًا دون متابعة. دفعنا هذا الأمر إلى نشر الفيديو الاستقصائي المُشار إليه أعلاه، وتقديم طلب لتوسيع التحقيق، لكن دون جدوى حتى الآن.
أمام التقاعس المستمر في تحمّل المسؤولية القضائية والإدارية تجاه ملف مركب نيسان، قام وفد من محامي مركز سيدار للدراسات القانونية، إلى جانب وفد من عائلات الضحايا، بلقاء رئيس الحكومة اللبنانية القاضي نواف سلام بتاريخ 19 حزيران 2025. خلال اللقاء، تم عرض تفاصيل الغياب الكامل لأي مسار جدي لتحقيق العدالة، سواء من قبل القضاء العسكري أو القضاء العدلي، وشرح أثر هذا الإهمال على عائلات الضحايا وحقهم في معرفة الحقيقة.
وقد أبدى الرئيس سلام اهتمامًا واضحًا بالقضية، وعلى إثر اللقاء تواصل مباشرةً مع وزير العدل، وطلب منه متابعة الملف قضائيًا واتخاذ ما يلزم لضمان تحقيق العدالة والمحاسبة، بما يتماشى مع الالتزامات الدستورية والحقوقية للبنان.
يتابع مركز سيدار حاليًا أحد عشر ملفًا قانونيًا خاصًا بضحايا المركب، تتعلق بإجراءات إثبات الفقدان تمهيدًا لشطبهم من السجلات الرسمية بعد إعلان وفاتهم، ليتسنّى لعائلاتهم الاستفادة من المساعدات الاجتماعية. وتتضمن هذه الإجراءات:
وبعد صدور قرارات إثبات الفقدان، سيقوم المركز باتخاذ إجراءات حصر الإرث لكل ضحية، بهدف تسهيل حصول ذويهم على المساعدات الاجتماعية التي خصصتها الحكومة اللبنانية.
الخاتمة:
من خلال هذا المسار، يسلّط مركز سيدار للدراسات القانونية الضوء على ضرورة إجراء تحقيق جدي ومستقل في حادثة مركب نيسان، وضمان محاسبة المسؤولين عنها بما يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وعلى رأسها بروتوكول مينيسوتا الخاص بالتحقيق في حالات الوفاة المشبوهة. إنّ الكشف عن الحقيقة كاملة وتحديد المسؤوليات بدقة ليس فقط مطلباً قانونياً، بل هو أيضاً واجب أخلاقي تجاه الضحايا وعائلاتهم، الذين لا يزالون يرزحون تحت وطأة الغياب والظلم وغياب العدالة.
كما يؤكد المركز أن ما جرى في نيسان 2022 لم يكن حادثاً معزولاً، بل يأتي في سياق أوسع من السياسات المقصّرة في حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لاسيما للمجتمعات المهمّشة واللاجئين، وفي ظل تزايد ظاهرة الهجرة غير النظامية نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية في لبنان.
وانطلاقًا من مسؤوليته القانونية والحقوقية، يلتزم مركز سيدار بالاستمرار في هذا المسار، بما يشمل تقديم الدعم القانوني الكامل لعائلات المفقودين، والعمل على دفع الدولة اللبنانية للاعتراف الرسمي بضحايا المركب، وتبنّي مشروع قانون يكرّس هذا الاعتراف ويصون كرامة الغرقى. كما سيواصل المركز جهوده في التوثيق والمناصرة محلياً ودولياً، لضمان عدم تكرار هذه المأساة، وتحقيق العدالة التي طال انتظارها.